سياسة الإقصاء

شغلتني في الأيام الماضية الحرب الدائرة بين مختلف التوجهات السياسية بشكل لا يعرف السياسة ، كل فصيل يحاول أن يظهر الفصيل الآخر على أنه غير صالح وأن توليه الأمور سيوقع ببلادنا المصائب ويحذر النخبين من التصويت لخصومه لأن الثورة ستسرق وأن وأن وأن ... وحاولت أن أفهم .. الكل صاحب الثورة ، والكل يدافع عنها ، والكل يبشر بها ، والكل يحذر من سرقتها ، أمر محير بالفعل ، تحار في فهمه عقول السّاسَة فما بالنا بالمواطن العادي ، وفي الحقيقة رأيت القضية من زاوية ربما تكون مختلفة قليلا حيث بدا لي أن سبب المصائب التي حلت بوطننا في السنوات بل في العقود والقرون الماضية يرجع بشكل رئيسي لسياسة الإقصاء ، كل من تولى أمر الأمة أقصى كل المختلفين معه ولو فكريا ، واكتسب الشعب هذه الثقافة فأصبح الكل يقصي الكل حتى من هم خارج السلطة ، وبدا لي أيضا أنه إذا استمرت هذه السياسة فإن هذا أقصى ما يتمناه أعداؤنا لأنه يُبقي حالة العداء مستمرة بين أركان الأمة ، أما إذا أردنا السلامة من هذا الفخ فإن علينا التوحد جميعا ووقف سيل الاتهامات بين فصائل المجتمع ، وأن يعرض كلُّ من يريد ما يريد على من يريد ، وأن يترك الأمر في النهاية لصندوق الانتخابات ليصوت الناخبون على قدر قناعتهم أو حتى على قدر قبليتهم وتعصبهم ، وأن يكون مفترضا لدى الجميع قبول النتائج مهما كانت والتعاون مع من يختاره الشعب مهما كنا نختلف معه في الرؤية ، أعلم أن هذا افتراض مثالي أو قل خيالي ربما يبتعد عن الواقع بقدر أو بآخر ، وأعلم أن عدونا لن يتركنا نقوم بذلك ببساطة لأن هذا سيعني نهاية آماله في الاستيلاء على مقدراتنا وسيقوم باستخدام كافة ما يتوفر لديه من وسائل التفتيت والتشتيت مستعينا بقواعده العميلة في بلادنا من أبناء جلدتنا وبالمؤسسات المالية الدولية لإحكام رباط الديون حول رقبة الوطن حتى نستسلم لمخططاته الدنيئة ، لكنني أعلم في نفس الوقت أن نجاحه وفشله يتوقف علينا نحن ، فالبيئة التي سنخلقها في مجتمعنا بعد الثورة هي التي ستحدد ، بمعنى أن الخلافات والمشاحنات والإقصاء هي البيئة المناسبة لنجاح العدو ، وسيغذيها بكل وسائل الإشعال لحرق الوطن ، بينما التوحد والتعقل والفهم الحقيقي للديمقراطية سيقيم حاجزا منبعا ضد هذه المخططات ، وسيفتح آفاق البناء أمام هذا الشعب المسكين الذي عانى طويلا وما زال ، واعتاد بطيبته أن تُسرق منه آماله وأحلامه في كل مرة يضعه بعض أبنائه على الطريق الصحيح ، ولئن كان ذلك قد نجح في الماضي فمن المفترض ألا ينجح اليوم لأن شبابنا اليوم أكثر ثقافة وتعليما وفهما عنه في الماضي الذي كانت نسب التعليم فيه لا تكاد تذكر ، كما أن الله أراد أن يساعدنا فزلزل أركان النظام المستبد حتى سقط كأي شيء هش رغم ما كان يتصف به من قوة وجبروت ، وربما أراد رب العزة أن يهيء لنا الفرصة لنسترد أنفسنا ليختبر ما إذا كنا نستحق أن نعيش كآدميين مثل المجتمعات الأخرى ، أم أننا شعب " بريالة " كما قال الأستاذ حمدي قنديل .... لننتظر ونرى .